فصل: المسألة الرابعة: (في اشتغال النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار للمنافقين):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على رشدهم ونفعهم، وكان حقيقة نظم الآية التخيير في الاستغفار وتركه ونفي المغفرة بالاستغفار بالعدد المحصور في سبعين، جعل صلى الله عليه وسلم الآية مقيدة لما في سورة المنافقين فاستغفر لابن أبيّ وصلى عليه وقام على قبره وصرح بأنه لو يعلم انه لو زاد على السبعين قبل لزاد، واستعظم عمر- رضى الله عنهم- ذلك منه صلى الله عليه وسلم وشرع يمسكه بثوبه ويقول: أتصلي عليه وقد نهاك الله عن ذلك! لأنه لم يفهم من الآية غير المجاز لما عنده من بغض المنافقين، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فرأى التمسك بالحقيقة لما في الرفق بالخليفة من جميل الطريقة بتحصيل الائتلاف الواقع للخلاف وغيره من الفوائد وجليل العوائد، ولذلك كان عمر- رضى الله عنهم- يقول لما نزل النهي الصريح: فعجبت بعد من جراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أي تفطنت بعد هذا الصريح أن ذلك الأول كان محتملًا وإلا لأنكر الله الصلاة عليه، وفي موافقة الله تعالى لعمر- رضى الله عنهم- منقبة شريفة له، وقد وافقه الله تعالى مع هذا في أشياء كثيرة، روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: لما توفى عبد الله بن أبيّ جاء ابنه عبد الله بن عبد الله- رضى الله عنهم-- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله ان يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه؛ وفي رواية في اللباس، فأعطاه قميصه وقال: إذا فرغت فآذنا، فلما فرغ آذنه فجاء، وفي رواية: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله فقال: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة} وسأزيده على السبعين؛ وفي رواية؛ لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها، قال: إنه منافق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأنزل الله عز وجل: {ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره} إلى {وهم فاسقون} فترك الصلاة عليهم، قال: فعجيب بعد من جراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم: وله في أواخر الجهاد عن جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما- قال: لما كان يوم بدر أتي بالأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي صلى الله عليه وسلم قميصًا فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه، قال ابن عيينة: كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه، وفي رواية عنه في اللباس أنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبيّ بعد ما أدخل قبره فأمر به فأخرج ووضع على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه- انتهى.
فكأن ابنه- رضى الله عنهم- استحى من أن يؤذن النبي صلى الله عليه وسلم به لما كان يعلم من نفاقه، أو آذنه صلى الله عليه وسلم به فصادف منه شغلًا فدفنه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إدخاله القبر وقبل تمام الدفن فأخرجه تطييبًا لخاطر ابنه الرجل الصالح ودفعًا لما قد يتوهمه من إحنة عليه وتأليفًا لغيره، فقد روي أنه قال صلى الله عليه وسلم: إني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب، فأسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب النبي صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الروايات أنه هو الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفنه في قميصه، وتعطفه عليه، أدعى إلى تراحم المسلمين وتعاطف بعضهم على بعض، وقوله: وألبسه قميصه- بالواو لا ينافي الرواية الأولى، وتحمل الرواية الأولى على أنه وعده إعطاء القميص لمانع كان من التنجيز وقت السؤال، فحمل الجزم بالإعطاء على الوعد الصادق ثم أنجزه بعد إخراجه من القبر- والله أعلم؛ ووردت هذه الآية على طريق الجواب لمن كأنه قال: ما تقدم من أحوال المنافقين كان انتهاكًا لحرمة الله أو لحق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرد فيه أنه يهينهم بالإماتة على النفاق، فكان يكفي فيه استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وأما هذان القسمان فأحدهما أخبر بأنه يميتهم منافقين، والثاني انتهك حرمة المخلصين من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين فهل ينفعهم الاستغفار لهم؟ فكأنه قيل: استوى الاستغفار وعدمه في أنه لا ينفعهم، وختمها بعلة عدم المغفرة في قوله: {ذلك} أي الأمر الذي يبعد فعله من الحكيم الكريم {بأنهم كفروا بالله} أي وهو الملك الأعظم {ورسوله} أي فهم لا يستأهلون الغفران لأنهم لم يهتدوا لإصرارهم على الفسق وهو معنى قائم بهم في الزيادة على السبعين كما هو قائم بهم في الاقتصار على السبعين {والله} أي المحيط علمًا وقدرة {لا يهدي القوم الفاسقين} أي أنه لا يهديهم لأنه جبلهم على الفسق، وكل من لا يهديه لأنه جلبه على الفسق لا يغفر له، فهو لا يغفر لهم لما علم منهم مما لا يعلمه غيره، فهو تمهيد لعذر النبي صلى الله عليه وسلم في استغفاره قبل العلم بالطبع الذي لا يمكن معه رجوع. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{معي أبدا} بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص والمفضل {معي عدو} بالفتح: حفض فقط.

.الوقوف:

{أو لا تستغفر لهم} ط {فلن يغفر الله لهم} ط {ورسوله} ط {الفاسقين} o {في الحر} ط {حرًا} م لأن المعنى لو كانوا يفقهون حرارة النار لما قالوا لا تنفروا في الحر. ولو وصل لأوهم أن جهنم لا يكون نارها أشد حرًا إذا لم يفقهوا ذلك {يفقهون} o {كثيرًا} ج لأن {جزاء} يصلح أن يكون مفعولًا له أو مصدر محذوف أي يجزون جزاء {يكسبون} o {معي عدوًّا} ط {الخالفين} o {على قبره} ط {فاسقون} o {وأولادهم} ط {كافرون} o {القاعدين} o {لا يفقهون} o {وأنفسهم} ط {الخيرات} ز لابتداء وعد الفلاح على التعظيم بدليل تكرار {أولئك} مع اتفاق الجملتين.
{المفلحون} o {خالدين فيها} ط {العظيم} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}
في الآية مسائل:

.المسألة الأولى: [في طلب المنافقين من النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار لهم]:

قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن عند نزول الآية الأولى في المنافقين، قالوا: يا رسول الله استغفر لنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سأستغفر لكم، وأشتغل بالاستغفار لهم، فنزلت هذه الآية، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستغفار.
وقال الحسن: كانوا يأتون رسول الله، فيعتذرون إليه ويقولون إن أردنا إلا الحسنى وما أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا، فنزلت هذه الآية.
وروى الأصم: أنه كان عبد الله بن أبي بن سلول إذا خطب الرسول.
قام وقال هذا رسول الله أكرمه الله وأعزه ونصره، فلما قام ذلك المقام بعد أحد قال له عمر: اجلس يا عدو الله، فقد ظهر كفرك وجبهه الناس من كل جهة، فخرج من المسجد، ولم يصل فلقيه رجل من قومه.
فقال له: ما صرفك؟ فحكى القصة.
فقال: ارجع إلى رسول الله يستغفر لك.
فقال: ما أبالي أستغفر لي أو لم يستغفر لي فنزل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ} [المنافقون: 5] وجاء المنافقون بعد أحد يعتذرون ويتعللون بالباطل أن يستغفر لهم.

.المسألة الثانية: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ}:

وروى الشعبي قال: دعا عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة أبيه فقال له عليه السلام: «من أنت؟» فقال: أنا الحباب بن عبد الله قال: بل أنت عبد الله بن عبد الله، إن الحباب هو الشيطان، ثم قرأ هذه الآية.
قال القاضي: ظاهر قوله: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} كالدلالة على طلب القوم منه الاستغفار، وقد حكيت ما روي فيه من الأخبار، والأقرب في تعلق هذه الآية بما قبلها ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما أن الذين كانوا يلمزون هم الذين طلبوا الاستغفار، فنزلت هذه الآية.

.المسألة الثالثة: [في التخصيص بالعدد المعين]:

من الناس من قال إن التخصيص بالعدد المعين، يدل على أن الحال فيما وراء ذلك العدد بخلافه، وهو مذهب القائلين بدليل الخطاب.
قالوا: والدليل عليه أنه لما نزل قوله تعالى: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} قال عليه السلام: «والله لأزيدن على السبعين» ولم ينصرف عنه حتى نزل قوله تعالى: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6] الآية فكف عنهم.
ولقائل أن يقول: هذا الاستدلال بالعكس أولى، لأنه تعالى لما بين للرسول عليه السلام أنه لا يغفر لهم ألبتة.
ثبت أن الحال فيما وراء العدد المذكور مساو للحال في العدد المذكور، وذلك يدل على أن التقييد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما وراءه بخلافه.

.المسألة الرابعة: [في اشتغال النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار للمنافقين]:

من الناس من قال: إن الرسول عليه السلام اشتغل بالاستغفار للقوم فمنعه الله منه، ومنهم من قال: إن المنافقين طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لهم فالله تعالى نهاه عنه والنهي عن الشيء لا يدل على كون المنهي مقدمًا على ذلك الفعل، وإنما قلنا إنه عليه السلام ما اشتغل بالاستغفار لهم لوجوه: الأول: أن المنافق كافر، وقد ظهر في شرعه عليه السلام أن الاستغفار للكافر لا يجوز.
ولهذا السبب أمر الله رسوله بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام إلا في قوله لأبيه: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] وإذا كان هذا مشهورًا في الشرع فكيف يجوز الإقدام عليه؟ الثاني: أن استغفار الغير للغير لا ينفعه إذا كان ذلك الغير مصرًا على القبح والمعصية.
الثالث: أن إقدامه على الاستغفار للمنافقين يجري مجرى إغرائهم بالإقدام على الذنب.
الرابع: أنه تعالى إذا كان لا يجيبه إليه بقي دعاء الرسول عليه السلام مردودًا عند الله، وذلك يوجب نقصان منصبه.
الخامس: أن هذا الدعاء لو كان مقبولًا من الرسول لكان قليله مثل كثيره في حصول الإجابة.
فثبت أن المقصود من هذا الكلام أن القوم لما طلبوا منه أن يستغفر لهم منعه الله منه، وليس المقصود من ذكر هذا العدد تحديد المنع، بل هو كما يقول القائل لمن سأله الحاجة: لو سألتني سبعين مرة لم أقضها لك، ولا يريد بذلك أنه إذا زاد قضاها فكذا ههنا، والذي يؤكد ذلك قوله تعالى في الآية: {ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله} فبين أن العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول وإن بلغ سبعين مرة، كفرهم وفسقهم، وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين، فصار هذا التعليل شاهدًا بأن المراد إزالة الطمع في أن ينفعهم استغفار الرسول عليه السلام مع إصرارهم على الكفر، ويؤكده أيضًا قوله تعالى: {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} والمعنى أن فسقهم مانع من الهداية.
فثبت أن الحق ما ذكرناه.

.المسألة الخامسة: [في أن السبعين عند العرب غاية مستقصاة]:

قال المتأخرون من أهل التفسير: السبعون عند العرب غاية مستقصاة لأنه عبارة عن جمع السبعة عشر مرات، والسبعة عدد شريف لأن عدد السموات والأرض والبحار والأقاليم والنجوم والأعضاء، هو هذا العدد.
وقال بعضهم: هذا العدد إنما خص بالذكر هاهنا لأنه روي أن النبي عليه السلام كبر على حمزة سبعين تكبيرة، فكأنه قيل: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} بإزاء صلاتك على حمزة، وقيل الأصل فيه قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] وقال عليه السلام: «الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة» فلما ذكر الله تعالى هذا العدد في معرض التضعيف لرسوله صار أصلًا فيه. اهـ.